كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قال تعالى: {فَمَحَوْنَا ءايَةَ الليل} وعلى هذا القول: تكون الإضافة في آية الليل والنهار للتبيين، والتقدير: فمحونا الآية التي هي الليل وجعلنا الآية التي هي نفس النهار مبصرة، ونظيره قولنا: نفس الشيء وذاته، فكذلك آية الليل هي نفس الليل.
ويقال أيضًا: دخلت بلاد خراسان أي دخلت البلاد التي هي خراسان، فكذلك ههنا.
القول الثاني: أن يكون المراد وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين يريد الشمس والقمر، فمحونا آية الليل وهي القمر، وفي تفسير محو القمر قولان:
القول الأول: المراد منه ما يظهر في القمر من الزيادة والنقصان في النور، فيبدو في أول الأمر في صورة الهلال، ثم لا يزال يتزايد نوره حتى يصير بدرًا كاملًا، ثم يأخذ في الانتقاص قليلًا قليلًا، وذلك هو المحو، إلى أن يعود إلى المحاق.
والقول الثاني: المراد من محو القمر الكلف الذي يظهر في وجهه يروى أن الشمس والقمر كانا سواء في النور والضوء، فأرسل الله جبريل عليه الصلاة والسلام فأمر جناحه على وجه القمر فطمس عنه الضوء.
ومعنى المحو في اللغة: إذهاب الأثر، تقول: محوته أمحوه وانمحى وامتحى إذا ذهب أثره، وأقول: حمل المحو في هذه الآية على الوجه الأول أولى، وذلك لأن اللام في قوله: {لِتَبْتَغُواْ فَضْلًا مّن رَّبّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} متعلق بما هو مذكور قبل، وهو محو آية الليل.
وجعل آية النهار مبصرة ومحو آية الليل إنما يؤثر في ابتغاء فضل الله.
إذا حملنا المحو على زيادة نور القمر ونقصانه، لأن سبب حصول هذه الحالة يختلف بأحوال نور القمر، وأهل التجارب بينوا أن اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه، مثل أحوال البحار في المد والجزر، ومثل أحوال التجربات على ما تذكره الأطباء في كتبهم، وأيضًا بسبب زيادة نور القمر ونقصانه يحصل الشهور، وبسبب معاودة الشهور يحصل السنون العربية المبنية على رؤية الأهلة كما قال: {وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} فثبت أن حمل المحو على ما ذكرناه أولى.
وأقول أيضًا: لو حملنا المحو على الكلف الحاصل في وجه القمر، فهو أيضًا برهان عظيم قاهر على صحة قول المسلمين في المبدأ والمعاد، أما دلالته على صحة قولهم في المبدأ، فلأن جرم القمر جرم بسيط عند الفلاسفة، فوجب أن يكون متشابه الصفات، فحصول الأحوال المختلفة الحاصلة بسبب المحو يدل على أنه ليس بسبب الطبيعة، بل لأجل أن الفاعل المختار خصص بعض أجزائه بالنور القوي، وبعض أجزائه بالنور الضعيف، وذلك يدل على أن مدبر العالم فاعل مختار لا موجب بالذات.
وأحسن ما ذكره الفلاسفة في الاعتذار عنه، أنه ارتكز في وجه القمر أجسام قليلة الضوء، مثل ارتكاز الكواكب في أجرام الأفلاك، فلما كانت تلك الأجرام أقل ضوأ من جرم القمر، لا جرم شوهدت تلك الأجرام في وجه القمر كالكلف في وجه الإنسان، وهذا لا يفيد مقصود الخصم، لأن جرم القمر لما كان متشابه الأجزاء فلم ارتكزت تلك الأجرام الظلمانية في بعض أجزاء القمر دون سائر الأجزاء؟ وبمثل هذا الطريق يتمسك في أحوال الكواكب، وذلك لأن الفلك جرم بسيط متشابه الأجزاء فلم لم يكن حصول جرم الكواكب في بعض جوانبه أولى من حصوله في سائر الجوانب؟ وذلك يدل على أن اختصاص ذلك الكوكب بذلك الموضع المعين من الفلك لأجل تخصيص الفاعل المختار، وكل هذه الدلائل إنما يراد من تقريرها وإيرادها التنبيه على أن المؤثر في العالم فاعل بالاختيار لا موجب بالذات، والله أعلم.
أما قوله: {وَجَعَلْنَا آية اللنهار مبصرة} ففيه وجهان: الأول: أن معنى كونها مبصرة أي مضيئة وذلك لأن الإضاءة سبب لحصول الإبصار، فأطلق اسم الإبصار على الإضاءة إطلاقًا لاسم المسبب على السبب.
والثاني: قال أبو عبيدة يقال: قد أبصر النهار إذا صار الناس يبصرون فيه، كقوله: رجل مخبث إذا كان أصحابه خبثاء، ورجل مضعف إذا كانت ذراريه ضعافًا، فكذا قوله:
{والنهار مبصرًا} [يونس: 67]، أي أهله بصراء.
واعلم أنه تعالى ذكر في آيات كثيرة منافع الليل والنهار، قال: {وَجَعَلْنَا الليل لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 10، 11] وقال أيضًا: {جَعَلَ لَكُمُ الليل والنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73].
ثم قال تعالى: {وَلِتَبْتَغُواْ فَضْلًا مّن رَّبّكُمْ} أي لتبصروا كيف تتصرفون في أعمالكم {وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب}.
واعلم أن الحساب مبني على أربع مراتب: الساعات والأيام والشهور والسنون، فالعدد للسنين، والحساب لما دون السنين، وهي الشهور والأيام والساعات، وبعد هذه المراتب الأربع لا يحصل إلا التكرار كما أنهم رتبوا العدد على أربع مراتب: الآحاد والعشرات والمئات والألوف، وليس بعدها إلا التكرار، والله أعلم.
ثم قال: {وَكُلَّ شَيْء فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} والمعنى: أنه تعالى لما ذكر أحوال آيتي الليل والنهار وهما من وجه دليلان قاطعان على التوحيد، ومن وجه آخر نعمتان عظيمتان من الله تعالى على أهل الدنيا، فلما شرح الله تعالى حالهما وفصل ما فيهما من وجوه الدلالة على الخالق ومن وجوه النعم العظيمة على الخلق، كان ذلك تفصيلًا نافعًا وبيانًا كاملًا، فلا جرم قال: {وَكُلَّ شيْء فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} أي كل شيء بكم إليه حاجة في مصالح دينكم ودنياكم، فقد فصلناه وشرحناه، وهو كقوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا في الكتاب مِن شَيْء} [الأنعام: 38] وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لّكُلّ شَيْء} [النحل: 89] وقوله: {تُدَمّرُ كُلَّ شَيْء بِأَمْرِ رَبّهَا} [الأحقاف: 25] وإنما ذكر المصدر وهو قوله: {تَفْصِيلًا} لأجل تأكيد الكلام وتقريره، كأنه قال: وفصلناه حقًا وفصلناه على الوجه الذي لا مزيد عليه، والله أعلم.
{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)}.
علم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في كيفية النظم وجوه:
الوجه الأول:
أنه تعالى لما قال: {وَكُلَّ شَيْء فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} كان معناه أن كل ما يحتاج إليه من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد فقد صار مذكورًا.
وكل ما يحتاج إليه من شرح أحوال الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، فقد صار مذكورًا.
وإذا كان الأمر كذلك فقد أزيحت الأعذار، وأزيلت العلل فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فقد ألزمناه طائره في عنقه ونقول له: {اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا}.
الوجه الثاني:
أنه تعالى لما بين أنه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدين والدنيا، مثل آيتي الليل والنهار وغيرهما كان منعمًا عليهم بأعظم وجوه النعم.
وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته وطاعته فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فإنه يكون مسؤولًا عن أعماله وأقواله.
الوجه الثالث:
في تقرير النظم أنه تعالى لما بين أنه ما خلق الخلق إلا ليشتغلوا بعبادته كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فلما شرح أحوال الشمس والقمر والليل والنهار، كان المعنى: إني إنما خلقت هذه الأشياء لتنتفعوا بها فتصيروا متمكنين من الاشتغال بطاعتي وخدمتي، وإذا كان كذلك فكل من ورد عرصة القيامة سألته أنه هل أتى بتلك الخدمة والطاعة، أو تمرد وعصى وبغى، فهذا هو الوجه في تقرير النظم.
المسألة الثانية:
في تفسير لفظ، الطائر، قولان:
القول الأول: أن العرب إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى شر اعتبروا أحوال الطير وهو أنه يطير بنفسه، أو يحتاج إلى ازعاجه، وإذا طار فهل يطير متيامنًا أو متياسرًا أو صاعدًا إلى الجو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة، فلما كثر ذلك منهم سمي الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه ونظيره قوله تعالى في سورة يس: {قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18] إلى قوله: {قَالُواْ طائركم مَّعَكُمْ} [يس: 19] فقوله: {وَكُلَّ إنسان ألزمناه طائره في عُنُقِهِ} أي كل إنسان ألزمناه عمله في عنقه.
وتدل على صحة هذا الوجه قراءة الحسن ومجاهد: {ألزمناه طائره في عُنُقِهِ}.
القول الثاني: قال أبو عبيدة: الطائر عند العرب الحظ وهو الذي تسميه الفرس البخت، وعلى هذا يجوز أن يكون معنى الطائر ما طار له من خير وشر، والتحقيق في هذا الباب أنه تعالى خلق الخلق وخص كل واحد منهم بمقدار مخصوص من العقل والعلم، والعمر والرزق، والسعادة والشقاوة.
والإنسان لا يمكنه أن يتجاوز ذلك القدر وأن ينحرف عنه، بل لابد وأن يصل إلى ذلك القدر بحسب الكمية والكيفية، فتلك الأشياء المقدورة كأنها تطير إليه وتصير إليه، فبهذا المعنى لا يبعد أن يعبر عن تلك الأحوال المقدرة بلفظ الطائر، فقوله: {وَكُلَّ إنسان ألزمناه طائره في عُنُقِهِ} كناية عن أن كل ما قدره الله تعالى ومضى في علمه حصوله، فهو لازم له واصل إليه غير منحرف عنه.
واعلم أن هذا من أدل الدلائل على أن كل ما قدره الله تعالى للإنسان وحكم عليه به في سابق علمه فهو واجب الوقوع ممتنع العدم، وتقريره من وجهين:
لوجه الأول:
أن تقدير الآية: وكل إنسان ألزمناه عمله في عنقه، فبين تعالى أن ذلك العمل لازم له، وما كان لازمًا للشيء كان ممتنع الزوال عنه واجب الحصول له وهو المقصود.
الوجه الثاني:
أنه تعالى أضاف ذلك الإلزام إلى نفسه، لأن قوله: {ألزمناه} تصريح بأن ذلك الإلزام إنما صدر منه، ونظيره قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} [الفتح: 26] وهذه الآية دالة على أنه لا يظهر في الأبد إلا ما حكم الله به في الأزل، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» والله أعلم.
المسألة الثالثة:
قوله: {فِي عُنُقِهِ} كناية عن اللزوم كما يقال: جعلت هذا في عنقك أي قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به، ويقال: قلدتك كذا وطوقتك كذا، أي صرفته إليك وألزمته إياك، ومنه قلده السلطان كذا.
أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان الطوق، ومنه يقال: فلان يقلد فلانًا أي جعل ذلك الاعتقاد كالقلادة المربوطة على عنقه.
قال أهل المعاني: وإنما خص العنق من بين سائر الأعضاء بهذا المعنى لأن الذي يكون عليه إما أن يكون خيرًا يزينه أو شرًا يشينه، وما يزين يكون كالطوق والحلي، والذي يشين فهو كالغل، فههنا عمله إن كان من الخيرات كان زينة له، وإن كان من المعاصي كان كالغل على رقبته.
ثم قال تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُورًا} قال الحسن: يا ابن آدم بسطنا لك صحيفة ووكل بك ملكان فهما عن يمينك وشمالك.
فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة.
قوله: {وَنُخْرِجُ لَهُ} أي من قبره يجوز أن يكون معناه: نخرج له ذلك لأنه لم ير كتابه في الدنيا فإذا بعث أظهر له ذلك وأخرج من الستر، وقرأ يعقوب: {ويخرج له يوم القيامة كتابًا} أي يخرج له الطائر أي عمله كتابًا منشورًا، كقوله تعالى: {وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ} [التكوير: 10] وقرأ ابن عمر: {يلقاه} من قولهم: لقيت فلانًا الشيء أي استقبلته به.
قال تعالى: {ولقاهم نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11] وهو منقول بالتشديد من لقيت الشيء ولقانيه زيد.
ثم قال تعالى: {اقرأ كتابك} والتقدير يقال له: وهذا القائل هو الله تعالى على ألسنة الملائكة {اقرأ كتابك} قال الحسن: يقرؤه أميًا كان أو غير أمي، وقال بكر بن عبد الله: يؤتى بالمؤمن يوم القيامة بصحيفته وهو يقرؤها وحسناته في ظهرها يغبطه الناس عليها، وسيئاته في جوف صحيفته وهو يقرؤها، حتى إذا ظن أنها أوبقته قال الله تعالى: اذهب فقد غفرتها لك فيما بيني وبينك فيعظم سروره، ويصير من الذين قال في حقهم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضاحكة مُّسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 38، 39] ثم يقول: {هَاؤُمُ اقرؤا كتابيه} [الحاقة: 19].
وأما قوله: {كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا} أي محاسبًا.
قال الحسن: عدل والله في حقك من جعلك حسيب نفسك.
قال السدي: يقول الكافر يومئذ إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد، فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له: {اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا}، والله أعلم.
المسألة الرابعة:
قال حكماء الإسلام: هذه الآية في غاية الشرف، وفيها أسرار عجيبة في أبحاث:
البحث الأول:
أنه تعالى جعل فعل العبد كالطير الذي يطير إليه، وذلك لأنه تعالى قدر لكل أحد في الأزل مقدارًا من الخير والشر، فذلك الحكم الذي سبق في علمه الأزلي وحكمه الأزلي لابد وأن يصل إليه، فذلك الحكم كأنه طائر يطير إليه من الأزل إلى ذلك الوقت، فإذا حضر ذلك الوقت وصل إليه ذلك الطائر وصولًا لا خلاص له ألبتة ولا انحراف عنه ألبتة.
وإذا علم الإنسان في كل قول وفعل ولمحة وفكرة أنه كان ذلك بمنزلة طائر طيره الله إليه على منهج معين وطريق معين، وأنه لابد وأن يصل إليه ذلك الطائر، فعند ذلك عرف أن الكفاية الأبدية لا تتم إلا بالعناية الأزلية.